الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (1): {وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ} قيل اليول شدة الشر وقيل الحزن والهلاك وقيل العذاب الأليم وقيل جبل في جهنم وأخرج ذلك عن عثمان مرفوعًا ابن جرير بسند فيه نظر وذهب كثير إلى أنه واد في جهنم فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ويل واد في جهنم يهوى فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره» وفي صحيحي ابن حبان والحاكم بلفظ «واد بين جبلين يهوى فيه الكافر» إلخ وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله أنه واد في جهنم من قبح وفي كتاب المفردات للراغب قال الأصمعي ويل قنوح وقد يستعمل للتحسر ومن قال ويل واد في جهنم لم يرد أن يولًا في اللغة موضوع لهذا وإنما أراد من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقرًا من النار وثبت ذلك له انتهى والظاهر إن إطلاقه على ذلك كإطلاق جهنم على ما هو المعروف فيها فلينظر من أي نوع ذلك الإطلاق وأيًا ما كان فهو مبتدأ وإن كان نكرة لوقوعه في موقع الدعاء وللمطففين خبره والتطفيف البخس في الكيل والوزن لما أن ما يبخس في كيل أو وزن واحد شيء طفيف أي نزر حقير والتفعيل فيه للتعدية أو للتكثير ولا ينافي كونه من الطفيف بالمعنى المذكور لأن كثرة الفعل بكثرة وقوعه وهو بتكراره لا بكثرة متعلقه وعن الزجاج أنه من طف الشيء جانبه وقوله تعالى: .تفسير الآية رقم (2): {الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ} إلخ صفة مخصصة للمطففين الذين نزلت فيهم الآية أو صفة كاشفة لحالهم شارحة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل أي إذا أخذوا من الناس ما أخذوا بحكم الشراء ونحوه كيلا يأخذونه وافيًا وافرًا وتبديل كلمة علي هنا بمن قيل لتضمين الاكتيال معنى الاستيلاء أو للإشارة إلى أنه اكتيال مضر للناس لا على اعتبار الضرر من حيث الشرط الذي يتضمنه إذا لإخلاله بالمعنى بل في نفس الأمر وجب الجواب بناء على أن المراد بالاستيفاء ليس أخذ الحق وافيًا من غير نقص بل مجرد الأخذ الوافي الوافر حسا أرادوا بأي وجه يتيسر من وجوه الحيل وكانوا يفعلونه بكبس المكيل ودعدعة المكيال إلى غير ذلك وقيل إن ذلك لاعتبار أن اكتيالهم لما لهم من الحق على الناس فعن الفراءان من وعلى يعتقبان في هذا الموضع فيقال اكتلت عليه أي أخذت ما عليه كيلا واكتلت منه أي استوفيت منه كيلا وتعقب بأنه مع اقتضائه لعدم شمول الحكم لاكتيالهم قبل أن يكون لهم على الناس شيء بطريق الشراء ونحوه مع أنه الشائع فيما بينهم يقتضي أن يكون معنى الاستيفاء أخذ ما لهم على الناس وافيًا من غير نقص إذ هو المتبادر منه عند الإطلاق في معرض الحق فلا يكون مدارًا لذمهم والدعاء عليهم وحمل ما لهم عليهم على معنى ما سيكون لهم عليهم مع كونه بعيدًا جدًا مما لا يجدي نفعًا فإن اعتبار كون المكيل لهم حالًا كان أو مآلًا يستدعي كون الاستيفاء بالمعنى المذكور حتمًا انتهى وأقول: أن قطع النظر عن كون الآية نازلة في مطففين صفتهم أخذ مكيل الناس إذا اكتالوا وافرًا حسا يريدون فلا بأس بحملها على ما يدل على أن المأخوذ حق حالًا أو مآلا وكون المتبادر حينئذ من الاستيفاء أخذ ما لهم وافيًا من غير نقص مسلم لكنه لا يضر قوله فلا يكون مدارًا لذمهم والدعاء عليهم قلنا مدار الذم ما تضمنه مجموع المتعاطفين والكلام كقولك فلان يأخذ حقه من الناس تامًا ويعطيهم حقهم ناقصًا وهي عبارة شائعة في الذم بل الذم بها أشد من الذم بنحو يأخذ ناقصًا وكونه دون الذم بنحو قولك يأخذ زائدًا ويعطى ناقصًا لا يضر كما لا يخفى ثم يقال إن الأغلب في اكتيال الشخص من شخص كون المكيل حقًا له بوجه من الوجوه ولعل مبنى كلام الفراء على ذلك فتأمل وجوز على أن تكون على متعلقة بـ {يَسْتَوْفُونَ} ويكون تقديمها على الفعل لإفادة الخصوصية أي يستوفون على الناس خاصة فأما أنفسهم فيستوفون لها وتعقب بأن القصر بتقديم الجار والمجرور إنما يكون فيما يمكن تعلق الفعل بغير المجرور أيضًا حسب تعلقه به فيقصد بالتقديم قصره عليه بطريق القلب أو الأفراد أو التعيين حسا يقتضيه المقام ولا ريب في أن الاستيفاء الذي هو عبارة عن الأخذ الوافي مما لا يتصوران يكون على أنفسهم حتى يقصد بتقديم الجار والمجرور قصره على الناس على أن الحديث واقع في الفعل لا فيما وقع عليه انتهى وأجيب بأن المراد بالاستيفاء المعدي بعلي على ذلك الأضرار فكأنه قيل إذا اكتالوا يضرون الناس خاصة ولا يضرون أنفسهم بل ينفعونها والقصر بطريق القلب والاضرار مما يمكن أن يكون لأنفسهم كما يمكن أن يكون للناس وإن كان ما به الإضرار مختلفًا حيث أن اضرارهم أنفسهم بأخذ الناقص وإضرارهم الناس بأخذ الزائد ثم أن خصوصية ما وقع عليه الفعل هو مدار الذم والدعاء بالويل وبه يجاب عما في حيز العلاوة انتهى ولا يخفى ما فيه فتدبر والضمير المنفصل في قوله تعالى: .تفسير الآية رقم (3): {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} للناس وما تقدم في الأخذ من الناس وهذا في الإعطاء فالمعنى وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم للبيع ينقصون وكال تستعمل مع المكيل باللام وبدونه فقد جاء في اللغة على ما قيل كال له وكاله عنى كال له وجعل غير واحد كاله من باب الحذف والإيصال على أن الأصل كال له فحذف الجار وأوصل الفعل كما في قوله: وقولهم في المثل الحريص يصيدك لا الجواد أي جنيت لك ويصيد لك وجوز أن يكون الكلام على حذف المضاف وهو مكيل وموزون وإقامة المضاف مقامه والأصل وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوهم وعن عيسى بن عمر وحمزة إن المكيل له والموزون له محذوف وهم ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع وهو الواو وكانا يقفان على الواوين وقيفة يبينان بهاما أرادوا وقال الزمخشري لا يصح كون الضمير مرفوعًا للمطففين لأنه يكون المعنى عليه إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص اخسروا وهو كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر وذلك على ما في الكشف لأن التأكيد اللفظي يدفعه المقام فليس المراد أن يحقق أن الكيل صدر منهم لا من عبيدهممثلًا والتقوى وحده يدفعه ترك الفاء في جواب إذا لأن الفصيح إذ ذاك فهم يخسرون فيتعين الحمل على التخصيص ويظهر العذر في ترك الفاء إذا المعنى لا يخسر إلا هم ويلزم التنافر وفوات المقابلة هذا وهم أولًا في كالوهم مانع من هذا التقدير أشد المنع والحمل على حذف الخبر من أحدهما وهو شطر الجزاء لا نظير له وقيل إنه يبعد كون الضمير مرفوعًا عدم إثبات الألف بعد الألف بعد الواو وقد تقرر في علم الخط إثباتها بعدها في مثل ذلك وجرى عليه رسم المصحف العثماني في نظائره وكونه هنا بالخصوص مخالفًا لما تقرر ولما سلك في النظائر بعيد كما لا يخفى ولعل الاقتار على الاكتيال في صورة الاستيفاء وذكر الكيل والوزن في صورة الأخسار أن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة وإذا أعطوا كالوا ووزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعًا والحاصل أنه إنما جاء النظم الجليل هكذا ليطابق من نزل فيهم فالصفة تنعى عليهم ما كانوا عليه من زيادة البخس والظلم وهذا صحيح جعلت الصفة مخصصة لهؤلاء المطففين كما هو الأظهر أو كاشفة لحالهم فقد أريد بالأول معهود ذهني وقال شيخ مشايخنا العلامة السيد صبغة الله الحيدري في ذلك أن التطفيف في الكيل يكون بشيء قليل لا يعبأ به في الأغلب دون التطفيف في الوزن فأن أدنى حميلة فيه يفضي إلى شيء كثير وأيضًا الغالب فيما يوزن ما هو أكثر قيمة مما يكال فإذا أخبرت الآية بأنهم لا يبقون على الناس ما هو قليل مهين من حقوقهم علم أنهم لا يبقون عليهم الكثير الذي لا يتسامح به أكثر الناس بل أهل المروآت أيضًا إلا نادرًا بالطريق الأولى بخلاف ما إذا ذكر أنهم يخسرون الناس بالأشياء الجزئية كما يفهم من ذكر الأخسار في الكيل فإنه لا يعلم منه أنهم يخسرونهم بالشيء الكثير أيضًا بل را يتوهم من تخصيص الجزئية بالذكر أنهم لا يتجرؤن على أخسارهم بكليات الأموال فلابد في الشق الثاني من ذكر الأخسار في الوزن أيضًا فتكون الآية منادية على ذميم أفعالهم ناعية عليهم بشنيع أحوالهم انتهى وتعقب بأنه لا يحسم السؤال لجواز أن يقال لم لم يقل إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا وزنوهم يخسرون ليعلم من القرينتين أنهم يستوفون الكير ويخسرون بالنزر الحقير بالطريق الأولى ويكون في الكلام ما هو من قبيل الاحتباك وقال الزجاج المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل وكذلك إذا اتزنوا استوفوا الوزن ولم يذكر إذا اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن ومراده على ما نص عليه الطيبي أنه استغنى بذكر إحدى القرينتين عن الأخرى لدلالة القرينة الآتية عليها وهو كما ترى وقيل إن المطففين باعة وهم في الغالب يشترون الشيء الكثير دفعة ثم يبيعونه متفرقًا في دفعات وكم قد رأينا منهم من يشتري من الزارعين مقدارًا كثيرًا من الحبوب مثلًا في يوم واحد فيدخره ثم يبيعه شيئًا فشيئًا في أيام عديدة ولما كانت العادة الغالبة أخذ الكثير بالكيل ذكر الاكتيال فقط في صورة الاستيفاء ولما كان ما يبيعونه مختلفًا كثرة وقلة ذكر الكيل والوزن في صورة الاعطاء أو لما كان اختيار ما به تعيين المقدار مفوضًا إلى رأي من يشتري منهم ذكرًا معًا في تلك الصورة إذ منهم من يختار الكيل ومنهم من يختار الوزن وأنت تعلم أن كون العادة الغالبة أخذ الكثير في الكيل غير مسلم على الإطلاق ولعله في بعض المواضع دون بعض وأهل بلدنا مدينة السلام اليوم لا يكتالون ولا يكيلون أصلًا وإنما عادتهم الوزن والاتزان مطلقًا وعدم التعرض للمكيل والموزون في الصورتين على ما قال غير واحد لأن مساق الكلام لبيان سوء معاملة المطففين في الأخذ والإعطاء لا في خصوصية المأخوذ والمعطى. .تفسير الآية رقم (4): {أَلا يَظُنُّ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ} استئناف وارد لتهويل ما ارتكبوه من التطفيف والهمزة للانكار والتعجيب ولا نافية فليست ألا هذه الاستفتاحية أو التنبيهية بل مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية والظن على معناه المعروف وأولئك إشارة إلى المطففين ووضعه موضع ضميرهم للاشعار ناط الحكم الذي هو وصفهم فإن الاشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه وأما الضمير فلا يتعرض للوصف وللإيذان بأنهم ممتازون بذلك الوصف القبيح عن سائر الناس أكمل امتياز نازلون منزلة الأمور المشار إليه إشارة حسية وما فيه من معنى البعد للاشعار ببعد درجتهم في الشرارة والفساد أي ألا يظن أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع الهائل أنهم مبعوثون. .تفسير الآية رقم (5): {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} لا يقادر قدر عظمه فإن من يظن ذلك وإن كان ظنًا ضعيفًا لا يكاد يتجاسر على أمثال هذه القبائح فكيف بمن يتيقنه ووصف اليوم بالعظم لعظم ما فيه كما أن جعله علة للبعث باعتبار ما فيه وقدر بعضهم مضافًا أي لحساب يوم وقيل الظن هنا عنى اليقين والأول أولى وأبلغ وعن الزمخشري أنه سبحانه جعلهم اسوأ حالًا من الكفار لأنه أثبت جل شأنه للكفار ظنًا حيث حكى سبحانه عنهم {إن نظن إلا ظنًا} [الجاثية: 32] ولم يثبته عز وجل لهم والمراد أنه تعالى نزلهم منزلة من لا يظن ليصح الانكار وقوله تعالى: .تفسير الآية رقم (6): {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين} أي لحكمه تعالى وقضائه عز وجل منصوب بإضمار أعني وجوز أن يكون معمولًا لمبعوثون أو مرفوع المحل خبرًا لمبتدأ مضمر أي هو أو ذلك يوم أو مجرور كما قال الفراء بدلًا من {يوم عظيم} [المطففين: 5] وهو على الوجهين مبني على الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعًا كما هو رأي الكوفيين وقد مر غير مرة ويؤيد الوجهين قراءة زيد بن علي يوم بالرفع وقراءة بعضهم كما حكى أبو معاذ يوم بالجر وفي هذا الإنكار والتعجيب وإيراد الظن والاتيان باسم الإشارة ووصف يوم قيامهم بالعظمة وإبدال يوم يقوم إلخ منه على القول به ووصفه تعالى بربوبية العالمين من البيان البليغ لعظم الذنب وتفاقم الاثم في التطفيف ما لا يخفى وليس ذلك نظرًا إلى التطفيف من حيث هو تطفيف بل من حيث إن الميزان قانون العدل الذي قامت به السموات والأرض فيعم الحكم التطفيف على الوجه الواقع من أولئك المطففين وغيره وصح من رواية الحاكم والطبراني وغيرهما عن ابن عباس وغيره مرفوعًا خمس بخمس قيل يا رسول الله وما خمس بخمس قال ما نقض قوم العهد إلا سلط الله تعالى عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول اتق الله تعالى وأوف الكيل فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى أن العرق ليلجمهم وعن كرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار فقيل له إن ابنك كيال ووزان فقال أشهد أنه في النار وكأنه أراد المبالغة لما علم أن الغالب فيهم التطفيف ومن هذا القبيل ما روى عن أبي رضي الله تعالى عنه لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤس المكاييل وألسن الموازين والله تعالى أعلم. واستدل بقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ} إلخ على منع القيام للناس لاختصاصه بالله تعالى وأجاب عنه الجلال السيوطي بأنه خاص بالقيام للمرء بين يديه أما القيام له إذا قدم ثم الجلوس فلا وأنت تعلم أن الآية عزل عن أن يستدل بها على ما ذكر ليحتاج إلى هذا الجواب وأرى الاستدلال بها على ذلك من العجب العجاب وقوله تعالى:
|